التكامل بين العلوم وبناء المناهج التعليمية في الجامعات العربية والإسلامية
فمثلاً على صعيد التعامل مع التكنولوجيا -استيراداً أو إبداعاً- يمكن للعلوم المختلفة أن تتعاون على تحديد ما هو ملائم منها للمجتمع، وما هو منسجم مع الواقع، فعلماء السكان من خلال الدراسات الميدانية والإحصائية والتنبئيّة يمكنهم تقديم صورة واضحة عن تركيبة المجتمع وخصائصه وحركته، وعلماء الاجتماع بوسعهم تحليل الواقع الثقافي والاجتماعي وتحديد مدى قدرته على التعامل مع الأفكار والأساليب الحديثة، وبمقدور علماء الاقتصاد -عبر الدراسات المقارنة- تبيان ما هو ملائم ومجد من تكنولوجيا، وهكذا بالنسبة إلى التخصصات الأخرى التي بوسع كل منها أن يدلي بدلوه بخصوص المشكلة أو المشروع موضوع البحث أو الاختيار.
من هنا يمكن القول: إنّ تقديم العلوم الإنسانية والطبيعية وغيرها ضمن المناهج التعليمية في الجامعات العربية والإسلامية على نحو متكامل من شأنه أن يسهم في تكوين النظام المعرفي الخاص ومن ثم يعمل على توطين العلوم.
والحقيقة: أنّ الدعوة إلى المنظور التكاملي للعلوم تحتاج إلى مزيد من الإضاءة والتحليل.
- من تجزئة المعرفة إلى تكاملها:
قبل أن تتطور معارف الإنسان في إطار ما نسمّيه بالعلوم الحديثة، كانت المعرفة واحدة, وكان البحث والتأليف ينـزع إلى الشمول، حتى بات بوسع أي مؤرخ أن يجد مكاناً لكثير من الأسماء الثقافية الكبرى في العديد من فروع المعرفة الحالية.
غير أن ذلك لا يعني بالضرورة: أنّ الفكر الإنساني كان بموسوعيته مستبطناً وحدة المعرفة، فما شهدته اليونان والرومان من توزيع طبقي لها، وما انطوت عليه التيارات الفلسفية القديمة والحديثة من تجزيئية( ) عكستها: المثالية بعقلانيتها ونظرتها النخبوية، والواقعية بماديتها وأحاديتها المصدرية، و«البرجماتية» باتجاهاتها الحسية والنفعيـة، ليشيـر إلى غيـاب المنظور التكاملي، حتى شهد العصر الحديث روحاً «وضعية»( ) حصرت فكرة الوجود بالإنسان والطبيعة، وجعلت من العقل والواقع والتجربة مصادر وحيدة لتحديد المعرفة وبيان قيمتها، واستبعدت بذلك الميتافيزيقيا والكثير من حقائق الإنسان الروحية، وظل يسود ساحة التفكير التفسير الميكانيكي لحركة الكون، الأمر الذي شكل الأرضية الملائمة لتصاعد النـزعة التجزيئية التي ستحتضنها – فيما بعد – ظاهرة « التخصص» في ميدان العلوم.
وإذا كان لابدّ من الإقرار بأنّ مقتضيات التعمق والتوسع في فروع المعرفة، قد فرضت واقع التخصّص شرطاً لتحقيق الدقّة العلمية واستيفاء المهارة العلمية، فذلك لا يلغي حقيقة: أن تطوُّّر تنظيم العلوم قد أوجد مناخاً ذهنياً زاد من إنعاش الـنـزوع التجزيئي الذي لم يكن - كما سنرى – في صالح العلم بوصفه أداةً للتقدم بمعناه التكاملي، ولا لصالح العلماء بصفتهم عناصر قيادية في هذا التقدم، فالتخصص الشديد المنعزل يخلق صعـوبات، وهو – كما يصفه «شرودنغر Schrodinger»: «ليس فضيلة، ولكنه شرّ لا بد منه» غير أن ثمن هذا الشر هو العقم – كما يقول عالم الرياضيات «موريس كلارين»؛ الذي يضيف: «ربما تطلب التخصص مهارة فائقة، ولكن قلّما يكون ذا معنى»؛ لأن المعرفة المعزولة التي تحصـلها طائفة من المتخصصـين في حقل ضيق لا قيمة لهـا البتة، إلا إذا أدمجت في سائر حقول المعرفة( ).
لهذا إذا كان لا يحسن بالعلماء أن يقبعوا في مختبراتهم، ويحبسوا عقولهم في الموضوع الذي أن قطعوا له إيثاراً لما أدى إليه التحليل من تعمق في معرفة الأجزاء، فإنه ينبغي عليهم – كما يقول د. جميل صليبا( ) - أن يسعوا إلى إدراك علاقات الأجزاء، ثم جمعها في نظريات كبرى تصور حقيقة الكون أكمل تصوير، فإن قيل: إنّ «التخصص العلمي» الدقيق أولى بالتقديم، وإنّ تقدم العلم رهن بتقسيم العمل بين العلماء، فذلك لا يتعارض مع مقولة: إنّ الحقائق العلمية متصلة ببعضها، وإن العالم إذا كان بهذا الاتصال أعرف، كان إلى إدراك حقيقة علمه أقرب( )، وإذا كان بالإمكان تصور المعارف كطبقات تقوم كل طبقة على مادونها، وتفضي إلى ما فوقها، وتصل بين الصّرحين معابر فكرية تجري فيها تيارات يتبادل فيها التجريد والتجريب، أخذاً وعطاءً، فغني عن البيان أنّ هذا الترتيب لم يعد ذا أهمية، إلا من حيث تأكيد أن حقـول المعرفة لا يمـكن أن يتقدم أيّ منها بمعـزل عن الآخر، إذا ما أريد لها أن تبقى معرفة متطورة وبنّاءة( ).
إنّ التقدم العلمي أخذ يكشف مؤكّداً يوماً بعد يوم حقيقة التكامل عبر ما يُلاحظ من اتصال وتداخل بين العلوم المختلفة، فالفيزيائي مثلاً إذا كان يحتاج إلى الرياضيات باعتبار أنّ الفيزياء في بعدها التجريبي رياضيات من حيث تقنيتها، فإن الرياضي لا يسعه غير الاهتمام بــ«الفيزياء الرياضية» التي تحلّ بطريقة استنتاجية بعض المشكلات المطروحة في حقل الفيزياء، ومثله الكيميائي الذي ليس بمقدوره التقدّم دون رفد الفيزياء في حقل اختصـاصه، أمّا عالم الحياة، فيحتاج بالضرورة إلى الكيمياء والفيزياء والرياضيات( ).
وفي تاريخ العلم نقرأ أنّ بعض الموضوعات التي كان يعتدّ بها بصفتها إشكاليات فلسفية، أضحت في عصور لاحقة إشكاليات علمية خالصة، الأمر الذي فرض على ممارس النشاط العلمي المعرفة بطبيعة الإشكاليات الجوهرية الفلسفية التي يستبطنها نشاطه، بل إنّ عملية جمع المعطيات «الإمبيريقية» تُعدّ – في غياب التصورات المبدئية والفروض العامة – عملية لا طائل ورائها( ).
لقد عرفنا أنّ نظرية «الحدّ الأدنى للحدّ الأقصى» التي جاء بها الرياضي «ف. نومان» كانت من نتائج تعاونه مع عالم الاقتصاد «مورجنشنزن»، كما لمسنا ما أوجدته دراسة السلوك الاقتصادي من صلات نافعة بين الاقتصاد وعلم النفس( )، ونعود اليوم لنرى النظرية العلمية التقليدية التي فصلت بين الجمال والحقيقة، والتي عُرفت منذ عصر النهضة الأوربي، تتوارى خلف الاتجـاه العلمي الجـديد الذي أضحـى لا يرى في الجمال إلا وسيلة من وسائل اكتشاف التركيب الجزيئي لحامض ال DNA الذي يقوم بدور مهم في نقل الصفات الوراثية، بل إنّ أبرز علماء الفيزياء في هذا القرن يجمعون على أن الجمال هو المقياس الأساسي للحقيقة العلمية، لدرجة أنه قُُُدّم على التجربة ( )، فالعلماء شأنهم شأن الفنانين يعتمدون اعتماداً شديداً على الحدس()، ولعلّ من الصواب – كما يقول الفيزيائي «ستيفن فاينبيرغ Weinberg» – القول: إنّ عالم الشعر كان مألوفاً لدى جميع العلماء الكبار حقاً( ) حتى قيل: إنّ العالم الذي يعمى عن رؤية الجمال هو عالِم ضئيل الحظ من العلم.
فهل بعد هذا يحقّ لنا الاستغراب إذا ما سمعنا عالماً حائزاً على جائزة نوبل في العلوم، كالدكتور محمد عبد السلام يصرح بأن معرفته الدينية كانت أحد روافد الإلهام الذي كشف له عن وحدة القوتين «الكهروطيسية» و«النووية الضعيفة»؟
إنّ الترابط والتكامل بين العلوم الطبيعية والرياضية والحيوية بات حقيقة واضحة، كما أن الترابط والتكامل بينها وبين العلوم الإنسانية أصبح يقرّ به الكثيرون، أمّا فيما بين فروع العلوم الإنسانية نفسها، فلا أظنه يحتاج إلى مزيد من التأكيد، بل إن الترابط والتكامل بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والحيوية أخذت تجليه الكثير من الدراسات، فبات من المعروف -منذ وقت مبكر- ضرورة أن يكون عالم النفس على دراية بالفسيولوجيا والبيولوجيا والوراثة والإحصاء، فضلاً عن الفلسفة والاجتماع واللغة، كما أنّ عالم اللغة أضحى معنيّاً بالمشكلات التي تتصل بحقل اختصاصه، كالتي تثيرها البيولوجيا والفسيولوجيا، ناهيك عن تلك التي تثيرها علوم النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا، وقد صرنا نرى قنوات اتصال بين «الإبيستمولوجيا التكوينية» (تشكل المعارف ونموها) و«علم النفس التكويني»، كما غدت دراسة الإبيستمولوجيا المذكورة ضرورية لمعرفة البنيات المنطقية والرياضية والحركية، حتى أن أحد المراكز العلمية في جنيف لم يتردد في إقامة تعاون بين علماء النفس والمنطق والرياضيات والفيزياء والسبرنتيك( ).
فإن عطفنا على المتخصص في الفلسفة، الذي تشغله قضايا لها مكانها في علوم الفيزياء والبيولوجيا والنفس والأخلاق الطبي، فإنه لم يعد بإمكانه التعامل مع تلكم القضايا بشكل متطوّر دون الإطلاع على أحدث النظريات التي تطرحها العلوم المذكورة( )، كما أنّ دراسة التاريخ يمكن أن تستفيد من الجيولوجيا والأحياء، فضلاً عن العلوم الأخرى كالاجتماع والإنثربولوجيا والنفس والاقتصاد، فتكامل المعرفة ضمن هذه العلوم يتيح للمؤرخ توضيح المتغيرات التي حدثت في الماضي( )، بل يمكننا القول: إنّ المختص في العلوم الإسلامية، كالفقية مثلاً، حريّ به -إذا كان حريصاً على تحري الصواب في استنباطاته الشرعية- أن يقف على أرض صلبة من المعرفة الإنسانية والطبيعية والطبية، ولو بالقدر الذي يتعلّق بالحالات أو الوقائع التي يتصدّى لها، لتلاقي بذلك «الحقيقةُ الشرعية» «الحقائقَ الإنسـانية» و«الطبيعية» و«الطبية» دونما تصادم؛ حتى الأديب، لا يمكنه الانعزال عن حقول العلم الأخرى، إنسانية كانت أو طبيعية، إذا ما أراد أن يصف المشاعر الإنسانية بدقة، ويصور دراما الحياة بشكل فذ.
إنّ ظهور ما يسمّى بـ«العلوم البينية Interdsciplinary» التي تعبر عن ارتباط مجال عـلمي «أعـلى» أكثر تعقـداً بمجال علمي «أدنى»، إنّما يعكس حالة متقدمة من التمثيل المتبادل والصلة المرموقة بين أفرع العلوم( ) وتأكيد تكاملها.
بل ظهر ما يسمى بـ «العلوم الميتامعرفية»، وهي العلوم التي تطفو فوق أجناس المعرفة وفروعها المتخصصة، ومثالها «علم الانبثاق أو الطفور Emergence» الذي يخترق حواجز التخصص ويتناول نطاقاً هائلاً من المجالات المعرفية، فمن ممالك النمل ولغته إلى بنية المخ وكيفية عمله، ومن تخطيط المدن ونمط تطورها، إلى تصميم ألعاب الفيديو وزيادة تفاعلها، ومن سلوك الحيوانات إلى تطور البرمجيات، ومن الإعلام إلى الإعلان( )، وهكذا.
تُرى إلى أيّ حدّ تمثلت فكرة التكامل في ذهنية العلماء المتخصصين وممارساتهم؟
ظاهرة العلماء الأميين وخيبة التكنوقراط:
في عام 1945م، وحين جرى التفكير بإنشاء «المؤسسة القومية للعلوم» في أمريكا، كتب خمسة آلاف من العلماء إلى الرئيس الأمريكي خطاباً يحذرونه من الخطأ الجسيم إذا ماتمّ إدخال العلوم الاجتماعية في المؤسسة المزمع إنشاؤها، ومع مضي أكثر من خمسين عاماً على هذا النمط من التفكير، ومع ماحدث من تغير وتطور في عالم المعرفة، ظل هذا الفهم القاصر منتشراً، فالكثير من المشتغلين في حقـول العـلوم الطبيعية والحيوية ما برحت تنقصهم جوانب كثيرة من المعرفة الإنسانية التي يحتاجونها يومياً في حياتهم الخاصة والعامة، وكان نتيجة ذلك أن عرف المجتمع العلمي انشطاراً ثقافياً() كان من تداعياته ترعرع حالات من التعصب أو التعالي تحكمت في سلوكيات كل شعبة إزاء الشعب الأخرى؛ واللافت استيطان هذه الحالات في أوساط المؤسسات العلمية على اختلافها، لدرجة أن الموضوعات التي تقبل المعالجة بأكثر من مدخل، والتي تطرحها مؤتمرات تلك المؤسسات ونداوتـها، لا يُدعى للمشاركة فيها عادة غير أفراد القبيلة التخصصية الواحدة.
إن الاقتصار على التخصص دون وعي بحقيقة الاتصال والتداخل والتبادل والتكامل بين المعارف والعلوم المختلفة، هو من عوامل تكوين الذهنيّة المحدودة، فقد كنا طلاباً، وكان يدهشنا أن ينقل إلينا أستاذ جامعي و«متخصص» «خبراً صحفياً» واضحاً في مدلوله الدعائي، كما لو كان يبلغنا عن «حقيقة علمية» لاغـبار عليهـا، كما كنا نأسـف، ونحن نقرأ أو نسمع بعض التفسيرات السياسية، التي كان يتورط بها – بين فترة وأخرى – عالم ديني مشهور انغلق - على ما يبدو - على معرفته التخصصية، فبدا في تفسيراته في غاية السـذاجة.. وهكذا فالمتخصصون إذا ما تحصنوا في جزرهم المعرفية، كان ذلك بمثابة إقفال لنوافذ الرؤية العامة، من شأنه أن يكشف عن ثغرات ذلك الحصن في أول ظهور خارجي.
حين يقودنا هذا التتبع نحو «التكنوقراط Technocratic»()، تلك الطائفة العلمية التي تتساءل – كما يقول غارودي- عن الشيء: كيف يكون؟ ولا تتساءل: لم هو؟ وتجتهد في قضية الوسائل، وتذهل عن رؤية الغايات( )، سنقف ولا شك أمام نموذج مقنن للظاهرة التخصصية، حيث العقل الأداتي الذي يسكنه فكر منفصم لا يؤدّي بصاحبه إلا إلى عجز عن إدراك غائية العلم وأخلاقياته، فضلاً عن ارتباطاته السياقية، حتى لا يبدو أفراد هذا النموذج وسط المشهد العام وكأنهم مجموعة من العلمـاء الأميين - كما يصفهم د. مهدي المنجرة – يعجزون عن المشاركة ديموقراطياً في نسق القرارات الحاكمة، فضلاً عمّا يحدثه مكّونهم العقلي من قطيعة بين وجهات النظر العلمية: الطبيعية والإنسانية( ).
نحن لا نجادل في أنّ منطق التطور في إطار تعقيدات البنى الحضارية ومؤسساتها في الغرب قد أفرز هذه الفئـة وكرس أهميتهـا، غـير أنّ ذلك لا يهوّن من بؤس الدور الذي تضطلع به بوصفها أدوات معرفيـة معزولـة لا تمتلك ما يمتلكه الاستراتيجي وصاحب القرار، بل إنّ الآلية الحرفية التي يتحصّن بها هؤلاء سنراها أكثر انقطاعاً وأشد بؤساً في سياق النظـم التسلطية التي لا يحق للتكنوقراطي في ظلها تجاوز دائرة الاختصاص الذي اختاره أو أُعدّ له، اكتفاء بالانغماس في بحوث أو أنشطة دقيقة مقفلة تنتج تقنيات أو مشاريع قد لا يكون فيها للضمير مكان، كما في عمليات تحضير الأسلحة الجرثومية، أو في تجريب أحدث وسائل التعذيب وغسل الأدمغة، أو في الأساليب «الميكافيللية» التي يبتكرها تكنوقراط الاقتصاد؛ للالتفاف على أقوات الناس ومعايشها، أو نحو ذلك من أنشطة يؤديها التكنوقراطي بوعي أو بدونه، حتى إذا حدث واستيقظ – بفعل المراجعة أو تأنيب الضمـير – يهبّ منقلباً على ما صنعته يداه، كما حدث لـ«أوبنهايمر» وثلة من العلماء الذين أسهموا في تصنيع القنبلة الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي.
وثمة وجه آخر لفصام التكنوقراط نلتقيه عندما تعتمد بعض الحكومات في تشكيلاتها الوزارية على الفني -وإن كان فقهه لا يتجاوز حدود التخصص- ظناً منها أن الوزير بهذا الشكل هو أكفأ من غيره وأقدر على تحقيق النجاح، فيما كانت التجربة لا تتمخض إلا عن نتائج جد متواضعة، إن لم تكن فاشلة، ذلك أنّ الذهنية التي يستوطنها التخصص المنفصل لا تمارس فعلها في حل المشكلات إلا على نحو «قطاعي»، ولا يكون بمقدورها استبصار العلاقة بين الخاص والعام والفني والسياسي والداخلي والخارجي، ومن ثم لا تضع لتلك العلائق العضوية أي حساب يُذكر، لهذا حريّ بنا أن لا نفاجأ بخيبة هذا الصنف من التكنوقراط، خاصة في مجتمع متغير أو نام.
- النزعة العلموية والانفلات عن السياقات:
مع ما ينبهنا إليه «علم اجتماع العلم» من أنّ المعرفة بكل فروعها تمتلك أنساقاً تختلف وتتوزع باختلاف وتنوع الثقافات، يظل التجزيئيّون في العالم النامي يغفلون التأسيسات الفلسفية للمعرفة، ويقصرون عن إدراك العلوم ضمن سياقاتها الاجتماعية، فضلاً عن التساؤل عن معطياتها النهائية، ذلك أنّ التبعية الإدراكية التي هيّأت لها الثقافة الغربية المهيمنة، جعلت من العلم الغربي العلمَ الشرعي الوحيد، فجهل لذلك الكثيرون دور «المخصّبات الثقافية»()، التي يمكن أن تفرزها الخصوبة الحضارية في الحقـل المعرفي، بل بما يمكن أن تقدّمه من رؤيـة «منحـازة» لجـانب من الواقع «الفيزيقي» أو الاجتماعي الإنساني – كما يشير بحق د. عبدالسميع سيد أحمد( ) - لهذا نشأت في الوطن العربي نزعة واضحة في هذا المجال هي «العلموية Scientism»() التي أصبحت تشكل –كما سبق أن بيّنا – جزءاً من العقلية العربية – وبخاصة النخبة المتعلمة والمتخصصة، ومؤدّى «العلموية» أنّ الوسيلة إلى التقدم الحضاري هي تداول «أرقى» و«أحدث» النظريات العلمية دون معرفة أسسها الفلسفية، أو دون التعرض للتغيرات التي يفرضها هذا التجديد العلمي على الأفكار العلمية والاجتماعية والسياسية، فيؤخذ العلم دون تاريخيته، وتتحول المادة العلمية كأنها جهاز مستورد أو قطعة تكنولوجية جديدة( ).
- المعرفة التكاملية والنجاح:
إذا كنّا قد ألمحنا -فيما تقدم- إلى ما قد يوفّره المنظور التكاملي من استيعاب للأبعاد الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فهل ترانا بحاجة إلى الإشارة إلى ظاهرة التلازم بين التكامل والنجاح المهني؟
ولتوضيح هذه النقطة، دعونا نشاهد هذا الطبيب الممدوح، الذي يعتمد الناس على دراياته، حتى وإن لم يكن تأهيله الأكاديمي بأفضل من زميله الذي قد لا يحوز الثقة ولا يتلقى غير الإعراض، لا لشيء إلا لأنّ الأول كان أكثر تفهماً لأبعاد المرض النفسية والبيئية، وأقدر على التعامل مع المرضى عبر جَدْلِه الطب بأطراف الحقائق الأخرى.. والأمر نفسه يمكن تلمّسه في حقل التعليم، حين يتفاعل الطلبة مع أستاذ قد لا يتميّز عن زمـلائه إلا بما حازه من قدرة على دعم تخصصة بثقافة عامة ووعي تربوي ومهارات اتصالية.
والمعطيات الإيجابية لمثل هذه الشروط يمكن متابعتها -إذا توافرت- في أكثر من مهنة وحقل، الأمر الذي يقودنا إلى تأكيد أنه من غـير اللائق أن لا يتحرج المتخصص في الحقل «العلمي» من جهله التام بالتاريخ والدين والفلسفة والأدب، أو أن يتباهى متخصص في قسم ما بأن قدراته في اللغة الأجنبية أعلى من قدراته في اللغة القومية، فالحقّ أن تكاملية المعرفة أدعى لترسيـخ قدم التخصـص من أحاديتها، بل في أرضـية التكامل تنضح ثمرة النجاح.
كما في الأول، في الأخير، نوافق على أن ثورة المعلومات، وضرورات تقسيم العمل ومقتضيات التعمق، استدعت التوفر على التخصص، غير أن كل ذلك لا يعفي من الإلحاح على حقيقة أنّ أي علم يفرض على صاحبه اتصالاً بالعلوم المجاورة أو المغذية أو المضيئة، حتى إذا ما انكفأ العالم مدققاً في الظاهرة موضع الاهتمام، أبقى النظر مفتوحاً على سائر الظواهر الأخرى.
إنها دعوة إلى إعادة النظر بالمفهوم الضيق للعلم، واعتماد نظرة شمولية تستوعب كل الأبعاد أيّاً كان التخصص( )، فالعلوم الحقّة ما هي إلا فروع لشجرة واحدة تستقي جـذورها -بتلازم واتساق- من حقيقة الخـالق، وما أودع في الكون والإنسان وسائر المخلوقات من سنن وقوانين وحقائق.
المنظور التكاملي للعلوم
وإعادة بناء المناهج التعليمية
- التكامل المعرفي: الفكرة والمقومات:
إذا سلّمنا بفكرة أنّ المعارف والعلوم ترتبط ببعضها وتتكامل في عمليات كشف الحقائق وإصدار الأحكام، فإن من المفيد أن نشير إلى أن المعرفة تستند -بصفتها التكاملية- إلى المقومات الآتية:
1- تكامل المعرفة في ضوء شمولية مصادرها:
إذا كان «العقـل» و«الحـس» و«التجربة» هي المصادر المعتمـدة للمعرفة في إطار منظـورها الغربي، فـإن «الوحـي» يمثل مصدراً أساساً في المنظور المعرفي الإسـلامي، بل يتقدم – عنـد قطعية وروده ودلالته- على تلكم المصـادر؛ باعتبـاره مكمّلاً أو موضحاً أو مرشداً لها، كما إنّه يمثل قاعدة الوصل بين الإدراك الجزئي والمـدارك الكلية التي توفرها النصـوص، التي تعـكس نظرة الدين نحو الكون والإنسان وغايات الوجـود، يضـاف إلى ذلك أنّ نظرية المعرفة الإسلامية لا تستبعد «الحدس» و«التذوق الروحي» كمصادر للكشف( )، ولو على صعيد الأفراد في أقل تقدير.
وبهذه التعددية والشمولية في المصادر تتوضّح أمامنا صورة التكامل في تكوين المعرفة.
2- تكامل المعرفة في ضوء وحدة الحقيقة الناتجة عن واحدية الصانع:
إنّ طابع الحقيقة موحّد في كلّ المجالات الإنسانية والطبيعية والدينية، وعلى تنوع المظاهر والأشكال، وهذه ظاهرة مردّها إلى أنّ جميع سنن الوجود الطبيعية والإنسانية مصدرها الله الواحد، الذي له مقاليد السموات والأرض
(الزمر:63)، والحق: أنّه لو كان لهذا الكون أكثر من خالق، لتصادمت السنن وفسدت قوانين الوجود، ثم إنّ المعرفة الدينية الصحيحة لا يمكن أن تتعارض مع القوانين والسنن التي تحكم الطبيعة والوجود، لهذا تميّزت نظرة الإسلام نحو العلوم بالكلية، فالآداب والفلسفة والدين والطبيعة كلها حقول تنتمي إلى وحدة معرفية متداخلة ومتكاملة، وهذا ما كان يدركه العديد من علماء المسلمين، الذين اتسمت جهودهم بالموسوعية، وعدم الاقتصار على التخصص.
3- تكامل المعرفة في ضوء وحدة التكوين الإنساني والوجودي:
الإنسان «جسم» و«عقل» و«روح» و«وجدان»، ولا يصح النظر إلى عناصره بشكل مجزأ، ومن ثم فالتعرف على الحقيقة الإنسانية لا يمكن أن يتمّ دون استحضار تلك المكوّنات جميعاً، كما أنّ النمو الإنساني لا يتم إلا من خلال نمو تلك العناصر بشكل متكامل، وهذا مطلب يقود تربوياً إلى ضرورة التعامـل مع المعرفة عـلى نحو متكامل، لذلك لابدّ من هذا المعتـقد عند مقاربة مختلف الظواهر الإنسانية والكونية للوصول إلى فهم أكثر شمولية ودقة.
من هنا علينا القول: إنّ مبدأ وحدة المعرفة هو مبدأ إسلامي بامتياز، وإنه يتعين انطلاقاً من هذا المبدأ أن نتعامل مع العلوم المختلفة بصفتها نظاماً كلياً حتى في حالة التعاطي مع تخصص محدد، ففي دراستنا للشخصية العربية مثلاً، لابدّ من استحضار الجوانب التاريخية والاجتماعية والدينية والأدبية؛ لأنه لا يمكن فهم هذه الشخصية وتغيراتها إلا في إطار التعرض لكل تلك الجوانب التي تعالجها علوم التاريخ والاجتماع والدين والأدب وغـيرها، كما أنّ دراسة ظاهرة أنثروبولوجية مّا، يقتضي الإلمام بمداخل من علوم التاريخ والاجتماع واللغة والآثار والاجتماع والفلكلور والفيزيولوجيا للوقوف على طبيعة تلك الظاهرة وكشف حقيقتها.
وبناءً على ذلك، لابد من القـول: إنّ أيّ علم من العلوم الإنسانية، وهو يعالج ظاهرة نوعية، لا يسعـه إلاّ إبقاء النظر مفتوحاً على سائر الظواهر الأخرى.
والأمر كذلك في المجال الطبيعي، حيث تتشابك الظواهر الفيزيائية بالكيميائية والحيوية، ولا يمكن دراسة ظاهرة طبيعية بشكل دقيق دون الأخذ بنظر الاعتبار بقية الظواهر، حتى الظواهر الإنسانية لها مستوى من الارتباط بالظواهر الطبيعية، فكمية الدم ونسبة الأوكسجين والكربون والمواد الغذائية والميكروبات تؤثر في المشاعر والسلوكيات على نحو أو آخر، كما تؤثّر المسكرات والمخدّرات في تلك المشاعر والسلوكيات( ).
أمّا ما يتعلّق بالطب البشري فليس بمقدورنا استبعاد المؤثرات النفسية، ذلك أنّ كثيراً من الأمراض الجسدية كالقرحة وضغط الدم واضطرابات التنفس ذات منشأ نفسي، ولمواجهة أمراض كهذه لابد من المدخلين العضوي والنفسي معاً، وفي الحقيقة: إن العوامل الاجتماعية والحضارية والمادية تسهم مجتمعة في بلورة الحالة الصحية للإنسان، ولا يمكن تبيّن الصحة وتشخيص المرض بمعزل عن أيّ من تلك العوامل.
لذلك نقول: إنّ اتصال فرع علمي بالفروع العلمية الأخرى على صعيد البحث أو التحقيق هو حاجة يفرضها العلم، ولا يمكن أن يطمسها الاستـقلال النسبي لأي فرع من الفروع( )، فالظاهرة في كلّ حقـول المعرفة لا يمكن فهمها حقّ الفهم إلا من خلال الظـواهر الأخرى، من هنا لا بدّ من القول: إنّ المنهج المنظومي «system approach» الذي ينظر من خلاله إلى مختلف الظواهر الإنسانية أو الطبيعية بوصفها وحدة واحدة، إنما يمثل المنهج العلمي الصحيح، مع إبقاء التحفظ على أنّ وحدة المعارف والعلوم وتكاملها تظل مقيـدة بحدود طبيعة الإنسـان وغاياته التي تأبى الخضوع المطلق لأدوات الضبط والقياس والتحكم التي تستخدم في دراسة الظواهر الطبيعية( ).
تجزئة المعرفة: عوامل النشأة وإشكاليات الظاهرة:
عُرف المنـزع التجزيئي في تحديد المعرفة وإنتاجها قديماً وفي العصر الحديث، ولمعرفة طبيعة نشأة هذا المنـزع، لابد أن نشير إلى العوامل الآتية:
أ- الثنائيات الوجودية وتجزئة المعرفة: النظرة الثنائية للإنسان تمثل صـدى لثنائية الخـالق والمخلوق، والدين والدنيـا، والحقيقة: أنّ الإنساني لا يمكن عزله عن الطبيعي، كما أنّ العيني لا يمكن فصله عن الغيبي، والتأليف بين هذه الثنائيات هو جوهر الأطروحة الإيمانية في الإسلام( ).
إنّ وحدة المعرفة التي تعتمد الترابط بين الإنسان والطبيعة والكون والخالق، تقتضي النظر إلى الظواهر بشكل متداخل، مع تغلّب الظاهرة موضع الدراسة( )، لهذا فإنّ تزايد الجهود المنصبة على إنشاء المنظور التكاملي الذي يجمع المساهمات المعرفية للعوالم المختلفة، من شأنه أن يقلل من تحيّز كلّ تخصص وادعاءاته المعرفة المبالغ فيها، لذا فالأخذ بالتكاملية «Interdisciplinarrity» بدلاً من الأحادية «Reductionists» يعني: تبنّي مبدأ تعدد المؤثرات في السلوك الإنساني( )، وانطلاقاً من هذا المنظور يمكن التحدّث عن إعادة تنظيم المناهج التعليمية وتجديدها.
ب- النظرة الطبقية للاجتماع البشري وتجزئة المعرفة: منذ أيام اليونان والرومان كانت المعرفة تجزّأ بناء على منظور طبقي، يتعاطى مع الأصناف المعرفية تبعاً للتقسيمات الاجتماعية، فما كان يطلق عليه بـ«الفنون السبعة الحرة» يقدّم لطبقة بعينها هي الطبقة الراقية في مقابل «المهن الحرة اليدوية» التي لا تليق بطبقة الأحرار، وكانت تقدم لمن هم أدنى، لهذا كان انتقاء المعرفة وتوزيعها يعكس توزيع القوة ومبادئ الضبط الاجتماعي على نحو تمييزي، لهذا يصح القول: إنّ التوزيع الاجتماعي للمعرفة كان يظهر كلّما كان التصنيف الاجتماعي بارزاً وقوياً، فيما كانت توزع المعرفة بشكل متكامل كلما كان التصنيف الاجتماعي منخفضاً.
والحقيقة: أنّ قيام الحواجز بين أنواع المعرفة تبعاً للتصنيف الطبقي يعمل على تفتيت نظرة الإنسان نحو عالمه، والفلاسفة والتربويون الذين يعتمدون المناهج الدراسية على أساس المفهوم المطلق لمجموعة من أشكال المعرفة تتوافق والمجالات التقليدية للنظم المعرفية «Disiciplines» بما بينها من حواجز، يقعون في خطأ كبير، وهم لا يدركون أن نظم المعرفة إنّما هي بنى اجتماعية تاريخية، وأنّ الحدود بينها تعسفية ومختلفة، ولا ينبغي أن تكون لها الأولوية في المناهج الدراسية، وإنما تكون الأولوية للصلات التي يستطيع المتعلّم إيجادها بالعالم الطبيعي والاجتماعي دون قوالب تجريدية( ).
ج- النـزعة النفعية المباشرة وتجزئة المعارف والعلوم وتشعبها: بات من المبرر الأخذ بالتخصصات وتوظيفها للأغراض العلمية، إلا أنّ الاحتباس في تلك الدوائر إلى درجة الحصر المعرفي واعتماد ذلك كآيديولوجية، هو أمر خاطئ، ولا يمكن عن طريقه الوصول إلى المعرفة الحقة، إلا أنّ هيمنة النـزعة النفعية المباشرة أخذت تدفع بالبحث العلمي وبنظام إعداد المناهج التعليمية نحو الدوائر التخصصية الضيقة التي كثيراً ما تدير ظهرها لمعلومات مهمة تحتويها العلوم الأخرى.
لقـد سبق لأمريكا في معرض محاولتها إصلاح التعليم أن كرست تجزئة المعرفـة عبر تأكيدها على لون معين من المعارف، وذلك كرد فعل على تفوق الاتحاد السوفيتي في حقل الفضـاء، يوم أن تمـكن هذا الاتحاد في العام 1957م من إطلاق أول قمر صنـاعي، وقد تجلى هـذا الموقف بعد عقد مؤتمر ضـم أبرز العلماء والباحثـين، وتمخّض عنـه ظهور كتاب «برونر» المعنون «The Process Of Education» والذي نودي من خلاله باعتماد النظم المعرفية المستقلة، وبوضع الحواجز بين المواد التعليمية، لدرجة صارت معايير التفوق لا تشتق إلا من التخصص والتعمق في النقـاط المدرسـية الدقيقـة، الأمر الذي أدى إلى حصر التعليم في دوائر مغلقة, غير أنّه لم يمض غير عقد من الزمان حتى انقلب «برونر» على نفسه، وصار يعيد النظر في عمليات بناء المنهج، ويقول بضرورة اتباع الطريقة التي لابد أن يراعى فيهـا التوازن والدمج والتكامل بين النظم المعرفية المختلفة( ).
وعلى خلفية النـزعة النفعية نرى أنّ الانحصار في التخصص بات يظهر في البلاد العربية والإسلامية على نحو متهافت، لدرجة أضحى الكثير لا ينظر إلى المعارف والعلوم والمهارات إلا بعين تاجر المفرق: هذا «مربح» فهو علم، وهذا «غير مربح» فهو ليس علماً، وهذا المنطق قلل من شأن قيمة الآداب والفنون، وكانت النتيجة أن ظهر متعلمون متخصصون لكنّهم أميون في المجالات الإنسانية الحية( ).
حتى في الحالات التي حُشرت خلالها بعض المواد الإنسانية كالدين والتربية الفنية ضمن المناهج، كان يترسب في الذهن عند الكثير من الأساتذة والتلاميذ أنّ هذه المواد مواد هامشية ولا قيمة لها، لا سيّما في ظل النظم التي تعفي هذه المواد من معايير النجاح والرسوب.
وبالمنطق التجاري المشار إليه أخذت القيمة النسبية للعلوم والمهارات تتباين من مجتمع إلى آخر، ومن حقبة إلى أخرى، وذلك بحسب معايير التوظيف ومقتضيات سوق العمل والمردود النفعي، وما يسود الواقع من أنماط اقتصادية وتجارية.
والحقيقة: أنّ القيمة النفعية للتخصصات ليست أمراً غير مرغوب فيه، إلا أنّ القيمة الحقيقية لذلك لا تتحقق إلا بمقدار ما يلبي التخصص الدقيق احتياجات التخطيط ومشروع التنمية، فضلاً عن إشباع الحاجات الحالية والمستقبلية للمجتمع، وهذا لا يتحقق من غير أن تُربط التخصّصـات المختلفة بعضها ببعض، وتتعاون بعيداً عن الفصل المتعسف( ).
- إشكاليات التجزئة ونتائجها:
إن تفجّر المعرفة وتزايد الفروع العلمية، والإيغال في التخصص والتشعيب، وشيوع المضمون الطبقي لأصناف المعارف، وضغوط العولمة وأسواق العمل، فضلاً عن تصاعد النـزعة النفعية، قد عمق ظاهرة التجزئة المعرفية، التي انعكست في المناهج التعليمية وفي طرق تدريسها، وكان لذلك نتائج سلبية منها:
أ- الانفصام المعرفي والجهل بحقيقة التكامل بين العلوم: إنّ الطالب والمتخصص في العلوم الطبيعية كثيراً ما يجهل في العلوم الإنسانية، وكلاهما قليل الإدراك لحقيقة الاتصال المنطقي بين الحقلين المذكورين، بل أن التجزئة المعرفية قد أدّت بالتخصصات الدقيقة إلى أن تنعزل عن المعارف والتخصصات، التي تقع في دائرة الحقل الذي تنتمي إليه، مما نجم عنه عدم وعي المتعلم بالبنى الكلية للعلم الذي يتخصص فيه، فضلاً عن جهله بعلاقة قوانين تخصصه بقوانين العلوم الأخرى.
ب- الجهل بالأسس الفلسفية للعلوم: إن ثمة فروضاً ومسلمات، إن لم نقل رؤى آيديولوجية، تنطلق منها العلوم الإنسانية والطبيعية تسبق العلم وقد ترافقه، كثيراً ما تُقدم تلك العلوم مدرسياً بمعزل عن الوعـي بالأسس أو المنطلقات الفلسفية والعقائدية التي تستبطنها، ولنا من علم التحريك الحراري، ومن نظرية الكم، ومن علم الكون أمثلة لذلك.
والحقيقة: أنّ أهمية التوعية بالأسس الفلسفية للعلوم ضرورية في المدارس العربية والإسلامية التي تتعاطى علوم الغرب، حيث تبدو الحاجة إلى التفكيك هنا قوية، وذلك للتمييز بين ما هو أيديولوجي وما هو علمي، وبين ما هو علمي نسبي وما هو علمي مطلق.
ج- إغفال السياقات الاجتماعية لانبثاق المعرفة وتأسيس العلوم: من السلبيات الأخرى للمنظور التجزيئي: أن يتمّ تلقي العلوم وفهمها بمعزل عن إدراك سياقاتها الاجتماعية والزمنية والجغرافية، الأمر الذي يجعلها منفصلة عن أطر النشأة وسياقات التطور، ومن ثم الحيلولة دون إدراك عناصرها ومتغيراتها الآيديولوجية وقوانينها النسبية التي تحكم المساحات الكبرى من موضوعاتها.
د- الانشطار الثقافي في المجتمع: كان من أبرز الانعكاسات الاجتماعية السلبية لتجزئة المعرفة: إنتاج متعلمين ينفصل بعضهم عن بعض تحت عنوانين هما: الثقافة الأدبية والثقافة العلمية، وبما يشبه الجزر المعرفية، ولعل تعبير «الثقافتين» الذي طرحه الكاتب البريطاني «سنو» للتعبير عن حالة الانفصام المعرفي في المجتمع الإنجليزي ما زال صالحاً –كما يقول د. عبد السميع سيد أحمد – لوصف العالم الفكري المعاصر، ولوصف عالمنا الثقافي، سواء على مستوى الثقافة العلمية الجامعية أو على مستوى الثقافة العامة( ).
هـ- وإجمالاً نقول: إنّ تجزئة المعرفة والانحصار في تخصص معين من شأنه أن يؤدي إلى حال من الفراغ الفكري كثيراً ما يدفع بالمتخصص إلى مطّ نطاق تخصصه وتحويله إلى نوع من الآيديولوجيا، التي يُفسّر بها العالم بعدد محدود من المقولات، وهذا في حقيقته -كما يقول د. نبيل علي- يقود إلى الوقوع في فخ شبـه العلم «Quasi–Science»( )، وهي نتيجة لا يمكن أن تقدم لنا العلماء والمتعلّمين الذين يُعوّل عليهم في مشروع التغيير.
- أهمية إعادة بناء المناهج التعليمية على قاعدة تكامل المعرفة:
إنّ النتائج السلبية لتجزئة المعرفة، التي أشرنا إليها، يمكن تجازوها عند اعتماد مبدأ التكامل في بناء المناهج الأولية والجامعية، وقد تظهر قيمة هذا المنحى على صعيد توفير الدقة العلمية، والتقدم في البحث، فضلاً عن التجويد في العملية التعليمية.
فبخصوص الناحية التعليمية ثبت أنّ التعليم الذي يربط المبادئ والنظريات في هذا التخصص بالمبادئ والنظريات في ذاك التخصص هو التعلم الأكثر فعالية وجدوى( )، كما أنّ الدراسة التي تلبي احتياجات التلميذ العقلية والمادية والروحية والأخلاقية والجمالية والعلمية، هي الدراسة الكفيلة بمساعـدته على تحقيق النمو المتكامل، لا سيّما أنّ المتلقي لا يتعامل بطبيعته مع الاحتياجات إلاّ على نحو كلي، لهذا فتقديم المعرفة على نحو متكامل ينسجم مع طبيعة تكوين التلميذ( ) بل إنّ الربط والتكامل يساعد على الاستيعاب وإبقاء المعرفة في الذاكرة مدة أطول، على خلاف المعلومات المجزأة أو غير المترابطة( ).
ومن الجدير بالذكر: أنّ جامعة «كيل Keele» هي من أوائل الجامعات التي أقامت مناهجها على أساس إزالة الحواجز التقليدية بين التخصصات، حتى أنها أنهت الثنائية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وبين التخصص والثقافة العامة( ).
كما أنّ بعض الجامعات في الدول الصناعية حين اكتشفت قصوراً لدى خريجي العلوم الهندسية والطبيعية في حقل اللغة القومية، عمدت إلى إخضاعهم إلى التدريب اللغوي، حتى أنّ بعضها في بريطانيا والولايات المتحدة ما عاد يمنح شهاداته التخصصية إلا بعد اجتياز امتحان في مادة الأدب الإنجليزي.
الواقع أن التخصـص المغـلق، الذي يفتـقر لقنوات الاتصـال بالعلوم المجاورة أو المغذية أو المضيئة، قد يؤدي بأصحابه إلى الجهل بالكثير من أبعاد المعرفة الإنسانية المهمّة، وهذا ما أخذ يشعر به الجميع، ومنهم الطلاب، ففي عام 1964م قام «P-Marris» (من إنكلترا) بدراسة حول شكوى الطلاب بخصـوص ما يتـلقونه من معـارف، فنقل عن أحـدهم قوله: «إنه لشيء سيء حـقاً أن تزداد معرفتك ضيقاً يوماً بعد يوم بسبب التخصّص، إنني أفضل نظرة أوسع، لقد درست العلوم طيلة حياتي، ولكن معرفتي بالتاريخ وما إليه محدودة جداً..»؛ ونقل عن آخر في جامعة «ليدز» قوله: «أظن أن الدراسة يجب أن تكون أقل تخصصاً، الدروس في وضعها الراهن تتعامل مع الفروع النظرية فقط من العلوم الرياضية، إنني أعتقد أنك يجب أن تضّمن الدرس بعض الأفكار حول الكيفية التي يمكن بها تطبيق الرياضيات على العلوم الأخرى، وفي النهاية كيفية تطبيق الفلسفة على العلوم الاجتماعية، إنني أعتقد أنّ هناك نقصاً كبيراً في إظهار كيف تتـكامل الرياضيـات مع الموضوعـات الأخرى، إننا لا نستطيع أن نقيم حدوداً حول الموضوعات العلمية المختلفة أو نصنفها في صناديق صغيرة»( ).
إن بناء المناهج التعليمية على أساس التكامل بين العلوم، والربط بين العلم وما يجاوره أو يغذيه أو يوسع من آفاقه، أمر ضروري على صعيد التعمق المعرفي وحيازة الدقة العلمية، فالتكامل والتواصل ومعرفة المشترك بين الفروع والمجالات المختلفة وإدراك ما بينها من تداخل وتبادل، سيسـاعد ولا شك على التكوين العلمي الذي من شأنه أن يولّد شمولاً في الرؤية وسيطرة في الوقت نفسه على التخصص بشكل سليم.
لقد أدرك عدد من العلماء المسلمين هذه الحقيقة، فذاك أبو حامد الغزالي على الرغم من نظرته السلبية للفلسفة، ظل يؤكد ضرورة أن ينال المتعلّم من كل شيء بطرف؛ إدراكاً منه لأنّه ما من علم إلا وله ارتباط بغيره من العلوم، وقد سبق لإخوان الصفا أن قرروا في رسائلهم ضرورة التنوع في المعرفة وعدم قصر التعليم على جانب واحد.
ويعدّ على الصعيد التربوي الحـديث «جان دكرولي» من أكثر التربويين الذين لامسوا بكتاباتهم موضوع «التربية الشمولية» معتبراً أنّ الأطفال بطبعهم يذوّبون عناصر الأشياء، وأن ردة فعلهم نحوها تتم في إطار وحدة واحدة( ).
- محاولات «علم المناهج التعليمية» بين التجزئة والتكامل:
تعرض تنظيم المنهج ذو المنحى التقليدي والمسمى بـ«منهج المواد الدراسية» إلى النقد الشديد؛ نظراً لكونه يقوم على الفصل بين المواد، وقد نُظر إليه على أنه يؤدّي إلى تجزئة المعرفة وتفتيتها، ولا يعرض المعلومات على نحو تترابط خلاله الحقائق والمفاهيم، فضلاً عن كونه يقدّمها معزولة عن ميادينها التطبيقية، فيحرم بذلك المتلقي من انتقال أثر التدريب.
لهذا أجرى المتخصصون تعديلات على هذا المنهج من خلال اقتراحات تنظيمات أخرى مثل «منهج المواد المترابطة» و«منهج المواد المندمجة» حيث لا فواصل أو حدود بين المواد، فـ«علم الحيوان» يتواصل مع «علم النبات» وكلاهما يتواصل مع «البيولوجيا»، و«علم التاريخ» يترابط مع «العلاقات الدولية»، وهكذا بالنسبة إلى بقية العلوم، حيث تتكامل المعرفة والأهداف التربوية سعياً لتحقيق النمو الشامل( ) .
وقد اقترح اختصاصيو المناهج التعليمية تنظيمات أخرى مثل: «منهج المجالات الواسعة» و«منهج النشاط» و«المنهج المحوري» و«منهج الوحدات الدراسية» وهي جميعاً تطمح إلى إزالة الحدود بين المواد، وتعمل على تحقيق وحدة المعرفة وترابطها أفقياً، على النحـو الذي يدرك من خلاله التـلاميذ ما بين المعارف والعلوم من صلات( ).
وعلى الرغم من كلّ هذه المقترحات والبدائل، فإنّ طرحها لم يتم بالشكل الذي يمكن من خلاله استيعاب المضامين الفلسفية والحقائق العلمية والرؤى الاجتماعية الدقيقة لفكرة الوحدة والتكامل، كما أنّ أغلب المدارس والجامعات في مجالنا العربي والإسلامي ما زالت وفيّة -من حيث الواقع- للتنظيم التقليدي للمنهج، بدليل أن منهج المواد المنفصلة ما برح هو السائد في عمليات تنظيم المواد وطرق تدريسها.
وحتى إذا ما ظهرت هنا أو هناك محاولات للإصلاح؛ انطلاقاً من مبدأ وحدة المعرفة وتكاملها، إلا أن معظم التدريسيين سواء على المستوى الأساسي أو الجامعي يظلون أقرب إلى المنهج التقليدي منهم إلى المنهج التكاملي، ذلك إنهم حتى وإن حاولوا استحضار فكرة التكامل، إلا أن عدم استيعابهم لهذه الفكرة يجعلهم يطبقونها بطريقة شكلية، لاسيما إذا كانت الإدارات التعليمية العليا ليس لديها الإيمان أو الوضوح الكافي بإشكالية التجزئة والتكامل على الصعيدين المعرفي والتعليمي.
والحقيقة: أنّ إعداد المنهج في ضوء مبدأ التكامل المعرفي ليس مجرد عملية شكلية يضطلع بها اختصاصيون فنيون، بل هي في الجوهر رؤية لفلسفة المعرفة، ووعي بالأبعاد الاجتماعية والمقاصد الكلية التي يحملها المبدأ المذكور، وهذا يعني: أنّ الإعداد على النحو المذكور ليس عملاً إجرائياً يتمّ بإضافة مواد طبيعية أو شرعية إلى المناهج الإنسانية، أو بإضافة مواد ثقافية عامة إلى هذا التخصص أو ذلك، كما هو الجاري في معظم المحاولات الإصلاحية بمدارسنا اليوم.
إن الإدماج والتكامل حريّ بأن يعكس موقفاً معـرفياً، ويعبّر عن عقلية خاصة لها تجلياتها عبر العلوم المختـلفة، سـواء على مستوى البحث في هذه العلوم أو على مستوى تدريسها، وبما يشكل في النهاية «نظاماً معرفياً» يترجم في مدارسنا الرؤية الخاصة للإنسان المسلم إزاء الكون والإنسان والحياة.
مقترح لبناء المناهج التعليمية وفقاً لمبدأ تكامل المعرفة:
ينصرف استخدام مفهوم التكامل في إطار «علم» المناهج التعليمية عند كثير من الباحثين مثل «فورجاتي» و«جاكويس» و«ستاج» وغيرهم إلى معنى التماسك والترابط بين عناصر المنهج، بما يقدّم من محاور معرفية وأنشطة تعليمية وأساليب منظمة ومخططة؛ سعياً لتنمية شخصية المتعلّم على النحو الذي يُمكّنه من الاضطلاع بأدواره المتعددة في المجتمع مستقبلاً( ).
وبإلقاء نظرة على الخطط والمناهج المطبقة حالياً في الكثير من المدارس والجامعات العربية والإسلامية، نفاجأ بظـاهرة التكديس والتـكرارية التي لا يُراعى من خلالها مقتضيات التكامل المعرفي( ) على النحو الذي بيّناه.
وفي ضوء كلّ ما تقدم، وبصرف النظر عن الصيغ والنماذج الفنية التفصيلية التي اقترحها التربويون لتحقيق التكامل في المناهج، يمكننا وضع تصور تخطيطي عام لتنظيم المناهج في المدارس والجامعات العربية والإسلامية، انطلاقاً من مبدأ تكامل المعرفة، وذلك وفق المسارات الآتية:
1- التكامل بين الفروع والوحدات الدراسية للعلم الواحد، كما في التقاء الفيزياء الكهربائية بالفيزياء المغناطيسـية، أو الترابط بين التربية الأخلاقية والتربية السياسية، أو في الجمع بين الجغرافيا الاقتصادية والجغرافيا السكانية، وهكذا..
2- التكامل بين العلوم المتعددة في إطار المجموعة الواحدة، كما في التقاء الفيزياء بالكيمياء، والحيوان بالنبات، والتاريخ بالجغرافية، والسياسة بالاجتماع، والتربية بعلم النفس.
3- التكامل بين العلوم المتعددة في إطار المجموعات العلمية المختلفة، كما في التقاء العلوم الإنسانية بالطبيعية، ومن أمثلة ذلك: تخصص الاقتصاد البيئي، وتخصص الأخلاقيات البيولوجية، وعلم النفس السياسي وغيرها.
4- التكامل بين العلوم المشخصة (كالميكانيكا والكيمياء والجيولوجيا والفلك وعلم النفس وعلم الاجتماع) والعلوم المجردة (الصورية) (كالرياضيات والمنطق والإحصاء).
5-التكامل بين المعرفة الدينية والمعرفة الدنيوية، أي بين علوم الدين كالعقيدة والشريعة والسلوك وبين علوم الواقع المشهود( )، وهذا اللون من التكامل ينطلق من الإيمان بالربط بين المعرفة والغايات، والعلم والوظيفة، والوجود والمصير.
6- التكامل الرأسي بين ما تمّ تعلمه في المراحل الدراسية السـابقة، وما يتمّ تعلمه في المراحل اللاحقة، وهذا يعني: الربط بين المعارف والعلوم التي يتمّ تلقيها في المراحل الابتدائية والثانوية، وما يتم تلقيه في المراحل الجامعية والعليا اللاحقة.
7- التكامل الخارجي بين مناهج النظام التعليمي وحاجات الفرد ومتطلبات المجتمع المختلفة، وهذا المستوى يتطلب تحقيق الترابط والتنسيق بين الإعداد الأكاديمي وعالم العمل، وذلك عن طريق مدّ التعلم والتدريب إلى ساحات الورش ومؤسسات المجتمع الإنتاجية المختلفة( ).
وفي الختام لا بدّ أن نشير إلى أن إعداد المناهج التعليمية وفقاً لمبدأ التكامل المعرفي قد يثير اعتراضين، الأول: أن التوسع بإضافة مواد إلى كلّ تخصص قد يتعارض مع ضرورات التعمق والتوسع التخصصي في ظل تفجّر المعرفة وتراكم المعلومات والخبرات التي باتت تستغرقها مختلف الفروع العلمية، والثاني: أنّ التوسع في المنهج من شأنه -على الصعيد التعليمي- أن يدفع بالطلبة إلى اعتبار المعرفة مجرد وسيلة للنجاح أو الحصول على الشهادة، ولا ينظر إليها بوصفها قيمة بذاتها، الأمر الذي قد يدفع بهم نحو الحرص على حفظها وتخزينها بشكل مؤقت حتى حلول ساعة الامتحان! وهو ما يعني: أن التوسع المنهاجي من غير ما ضرورة قد يحول دون توفير حالة من التفاعل الحقيقي مع المعرفة، ومن ثم لا يساعد على جعلها جزءاً من الشخصية والتكوين الثقافي المستديم.
وإذا كان كلا الاعتراضين لا يخلو من صحة ووجاهة، فإننا نود أن نؤكد أنّ أهمية الأخذ بمبدأ التكامل المعرفي لا تأتي من تكديس المعـلومات أو تطويل المنهج، فمنهج التكامل لا يعني حشو المقررات بالتفاصيل المختلفة إلى درجة الاختناق، بل هو تكوين لرؤية عميقة نحو العلم، يمكن من خلالها بناء تصوّر شمولي للكون والإنسان والحياة، وهو ما لا يوفّره الرجوع إلى المنهجية القائمة على الحفظ وجمع أكبر كم من المعلومات، لذلك فالتكامل مشروط بالتركيز المعرفي والتماسك العلمي، وتعلم طرائق في التفكير والبحث في إطار وعي البنى الكلية للمعرفة بعيداً عن التكديس والحشو الذي لا معنى له.
وأخيراً، لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ فعالية المنهج التكاملي تظلّ في كلّ الأحوال مرتبطة بمدى استيعاب المعلم المنفذ لفكرة التكامل، سواء على صعيد الفروع العلمية، أو الأنشطة التعليمية، أو الأساليب التقويمية،فضلاً عن مدى التعاون والتنسيق فيما بين المعلمين على اختلاف تخصصاتهم.
الخاتمة
عرفنا عبر هذه الدراسة أنّ مشروع إعادة بناء العلوم في المجال العربي والإسلامي يستند إلى أربعة أبعاد، هي: البعد العقيدي والفلسفي، الذي تتأصل عبره المعارف بناء على عدد من المسلّمات والأسس الفكرية؛ والبعد البيئي، الذي يقوم على استيعاب الواقع الطبيعي والاجتمـاعي ومراعـاة ما يفرضه هذا الواقع ببعديه من متطلبات وشروط؛ ثم البعد العلمي البحت، المتصل بالحقائق والقوانين والسنن الاجتماعية والطبيعيـة التي يتـم تقريرها أو اكتشافها على المستويين المطلق والنسبي؛ وأخيراً البعد التوظيفي المتمثل باستخـدامات العـلم وتوظيف معطيـاته وفقاً للآيديولوجية أو المصالح أو الغايات المرسومة.
والحقيقة: أنّ إعادة بناء العلوم وفقاً للمرتكزات المذكورة إذ يعني: توطين العلوم، فإن اعتماد ذلك ضمن سياق معرفي واحد سيعني التأسيس لنظام معرفي له أبعاده الموضوعية وخصوصياته الحضارية.
ولا شكّ أنّ من يضطلع بهذه المهمة على النحو التفصيلي هم العلماء والمفكرون والباحثـون، سـواء عبر الجهـود الفردية أو المؤسسية، الأهلية أو الرسمية، كما لا شك أن الجامعة يمكنها الاضطلاع بدور بارز على هذا الصعيد، لا سيّما عبر مداخلها التي عرضنا لها وهي المناهج، والبحوث، والترجمة والتعريب، فضلاً عن إعداد المناهج وفقاً لمبدأ تكامل المعرفة.
وإذا كان عمل الجامعات يمثل مرتكزاً حيوياً في هذا المشروع، فإن تعاونها مع المراكز والمؤسسات العلمية والثقافية والإنتاجية الأولى مطلوب، سواء على مستوى البلد الواحد أو على مستوى البلدان المتعددة.
وإذا كان المعوّل عليه أساساً في إنجاز هذا المشروع هو الجهد العلمي، الذي يضطلع به -كما قلنا- المفكّرون والأكاديميّون، إلا أن بث فكرته في ثنايا الثقافة العامة أمر لا غنى عنه، إذ أنّ من شأن التثقيف بالمشروع المذكور توفير المناخ المناسب لإدراك قيمته في أبعادها الفكرية والتربوية والحضارية.
إنّ إعادة بناء العلوم في إطار توطينها في المجال العربي والإسلامي بقدر ما هو عمل علمي، هو عمل اجتماعي وحضاري، ويمثل في النهاية جزءاً حيوياً في مشروع النهضة المستقلة.
وأخيراً، لا بدّ أن ننوه بأن ما سبق أن نشرناه تحت عنوان «الغرب ودراسة الآخر: أفريقيا أنموذجاً» يمكن اعتباره امتداداً لهذه الدراسة وتفصيلاً نوعياً على متنها، كما أن ما ننوي نشره تحت عنوان «هوية التربية وخصوصياتها فى المجال العربي والإسلامي» يمثل أيضاً مقاربة نوعية تتصل بالدراسة نفسها.
ونأمل أن تتعمق وتتسع دائرة الاهتمام بموضوع التوطين، لتشمل مختلف الجوانب والأبعاد التي يستدعيها هذا المشروع العلمي والحضاري الكبير.
تعليقات
إرسال تعليق
add_commentإرسال تعليق